رسالتي لهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الملك الحق المبين , وعد الصابرين بأن يوفيهم أجرهم بغير حساب , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين إمام المتقين وسيد الصابرين , وأعظم المبتلين , وعلى آله واصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين , وبعد ؛
فيا إخواني المسلمين المصابين والمكلومين والمظلومين في سوريا , اعلموا – ثبتكم الله- أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا , كما قال ذلك نبيكم صلى الله عليه وسلم , واعلموا أن الله تعالى ما ابتلاكم إلا ليغفر لكم , ويرفع درجاتكم , فإنه (من يرد الله به خيرا يصب منه ) كما صح به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي الحديث : إذا أحب الله قوما ابتلاهم , فالذي أريد أن أذكركم به هو أن تعتقدوا عن يقين لا شك فيه أن ما يحصل لكم من أمور فضيعة من قتل وغيره خير لكم كما قال صلى الله عليه وسلم : (عجبا لأمر المؤمن ؛ إن أمره كله خير , وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن , إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له , وإن أصابته ضراء صبر , فكان خيرا له) , وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) , فما يحصل لكم من بلاء عظيم هو خير لكم , لتمحص ذنوبكم , ويقوى صبركم , وتعودوا إلى الله , وتكثروا التضرع , كما قال تعالى : (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ) , حتى إن المؤمن ليحمد الله على المصيبة , لما ترتب عليها من حصول زيادة الإيمان له , وذوق حلاوة المناجاة , والزهد في الدنيا والتوجه إلى الآخرة , وقوة التعلق بالله وحسن الظن به , وقد نزل بنبينا صلى الله عليه وسلم وعلى سائر النبيين قبله عليهم السلام ما لن يلحق أحد بعدهم ما لحق بهم , فصبروا واحتسبوا وعلموا أنه بما أنهم على طريق الإسلام أنه خير لهم وأن العاقبة لهم , والخزي على أعدائهم.
فالواجب على إخواننا في سوريا – أعانهم الله – هو حسن الظن بالله وانتظار الفرج , واليقين بالنصر العاجل – إن شاء الله - , وقد كان سلفنا يسمون البلاء منحة لا محنة ؛ لأنه دليل إرادة الله بالعبد الخير , وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل المؤمن كالخامة من الزرع ، تفيئها الريح مرة ، وتعدلها مرة ، ومثل المنافق كالأرزة ، لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة ) يعني أن المؤمن ينوِّع عليه البلاء بخلاف المنافق يأتيه الموت من غير سابق بلاء , نسأل الله العافية , ولكم أيها الإخوة أسوة في أنبياء الله في أيوب عليه السلام ويعقوب ويحيى وزكريا وسائر أنبياء الله عليهم السلام , وأعظمهم بلاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , وقد قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ . أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) , وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) , وقال تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) ومن عظيم فضل الصبر أن الله ذكر فضله في القرآن في أكثر من مائة موطن , وقد أفرد له ابن القيم كتابا حافلا أسماه (عدة الصابرين ) فيه تسلية لكل مصاب , وأفرد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بابا في كتاب التوحيد بعنوان (من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ) وشرحه الشيخ عبدالرحمن بن حسن في كتابه (فتح المجيد) شرحاً عظيما فيه تسلية للمصابين , فحبذا الرجوع إليهما في مثل هذه المواقف العصيبة , حتى يوقن المسلم أن هذه المصائب رحمة من الله , فيزداد يقينه ويستمر صبره ولا يجزع فيضيع الأجر عياذا بالله , فاصبروا أيها الإخوة وصابروا , ونحن والله معكم بدموعنا وقلوبنا ودعائنا , ولكم أسوة في إخوانكم في فلسطين والشيشان وكوسوفا وغيرها من الأوطان , وسنة الله تعالى أن الفرج يأتي إذا اشتد الكرب , كما قال تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) , ويقول أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .
فاعلموا إخواني أن الله لا يريد هلاككم بل هو أرحم بكم من أمهاتكم ويريد دواءكم ومغفرة ذنوبكم , والتمكين لكم , ولا يكون التمكين إلا بعد البلاء , وعن بعض السلف : ( ما أخذ الله نعمة من عبد فأعطاه الصبر عليها إلا كان ما أعطاه أعظم مما أخذه) , وسأل رجل الشافعي رحمه الله فقال: ( يا أبا عبد الله ، أيُّما أفضل للرجل: أن يمكن أو أن يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى ، فإن الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة). فالابتلاء والاختبار والافتتان من سنن المرسلين، وأتباعهم إلى يوم الدين، ولو عُفي أحد من ذلك لعُفي وكُفي أخلاء الله وأصفياؤه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
قال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) .
وخرج البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمُه وعظمُه، فما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون). وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: ( الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة ) . وقال مالك رحمه الله عندما ضرب وامتحن : (لا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر) .
أيها الإخوة ولما علم السلف معنى البلاء وعلموا هذه الآيات والأحاديث كانوا يشكرون الله على البلاء , ويعرفون أنه من نعم الله عليهم لأنه خير لهم , بل كان بعضهم يتلذذ بالبلاء لأنه من أرحم الراحمين , فاصبروا وصابروا ورابطوا وابشروا , نسأل الله لكن النصر والتمكين , وعلى أعدائكم الهزيمة والخزي والتقتيل , والله الموفق والمعين وعليه التكلان وهو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .